أحمد شوقي.. وقود في معركة ريادة الشعر العربي
متحفه بلا زوار وتراثه الإبداعي مهدور
القاهرة: إيهاب الحضري
في حياته هوجم أحمد شوقي بقوة، ورغم ذلك بايعه معاصروه أميرًا للشعراء. وفي 14 أكتوبر الجاري حلت الذكرى الخامسة والسبعون لرحيله دون أن ينتهي الجدل حوله، وإن كان قد أخذ أبعادا أخرى، ليفسر البعض هذا الخلاف على أنه نزاع على ريادة الشعر العربي بين مصر ولبنان. وهناك من رأى أن أمير الشعراء كان ضحية صراع مزمن بين شاعرين عربيين كبيرين. وبعيدا عن القضايا الكبرى طرحنا سؤالا بسيطا : كيف أثر شوقي فيك كشاعر؟ لكن السؤال البسيط كان محطة انطلاق لأفكار تجاوزت كل حدود البساطة.
لا ينفي الشاعر محمد سليمان وجود تأثيرات لشوقي عليه: "بالتأكيد كان له أثر. فشوقي كان هذا الشاعر الكبير الذي كرسته مناهج الدراسة في فترة معينة، بالإضافة إلى تكريسه عن طريق المسرح والغناء، ولا ننسى مختارات الشوقيات التي كانت مقررة في المدارس. في ظروف كهذه، يصبح شوقي احد المؤثرين الأوائل بالنسبة لي، ثم انتقلت من شعره للاستفادة من شعراء المهجر. وفي الستينات أتيت إلى القاهرة لأدرس الصيدلة، والتقيت فيها بشعراء التجديد وبدأت استفادتى منهم. وانتقلت من القصيدة العمودية التي بقيت أكتبها حتى بداية السبعينات إلى الشعر الحر". التأثير ليس مقصورا على محمد سليمان، فهو يؤكد: "لا نستطيع أن نزعم أن شوقي لم يؤثر في أي من الشعراء المصريين الذين بدأوا مع الشعر العمودي، لكن انشغالي بشعراء المهجر بعد ذلك، كان أهم وأكبر لأنني لمست فيهم الرغبة في التحديث والالتحام بالحياة اليومية، وبقيت منشغلاً بهم حتى التقيت بصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وحجازى وادونيس".
رغم تأكيدات سليمان، يبدو شوقي متراجعا لدى شعراء كثيرين، وهناك من يقلل من أهمية إبداعه، خاصة جيل السبعينات ومن تلاهم، تعقيب يعلق عليه قائلا: "يضم هذا الجيل شعراء تجاوز عمرهم الخمسين اليوم، وآخرين لم يتجاوزوه. الكبار يدركون قدر شوقي، لكن ربما لم ينشغل الأصغر سنا بأشعاره. ولا تنس أننا قرأنا الكثير لأعداء شوقي، مثل العقاد وشكري والمازني، وقد أهانوه وسخروا منه واتهموه بتجميد الشعر العربي. كل هذا أثر في الأجيال التالية، لكن هناك سؤالا يجب أن يطرح نفسه هو: من الذي بقي؟ هل استطاع المازني أو العقاد تجاوز شوقي شعريا؟ أشعرهم كان عبد الرحمن شكري، لكنه لم يتجاوز قامة شوقي بدوره". هناك عوامل أخرى خارجية لعبت دورا في هذه القضية، يضيف محمد سليمان: "في الستينات والسبعينات كان هناك تألق لأدونيس والمدرسة اللبنانية، وعلينا أن نعترف أن اللبنانيين من خلال مدرسة ومجلة "شعر" قادوا حركة التجديد فشدت انتباه الأجيال الجديدة".
هناك من يرى أن الجدل حول شوقي ليس إلا صراعا حول الريادة بين مصر ودول عربية أخرى، هل توافق على هذا الطرح؟ يجيب سليمان: "منذ الستينات والمعارك قائمة بين الشعر المصري واللبناني. وعلينا أن نتذكر أن شعراء ونقادا عربا استمروا يسقطون الشعر المصري من حساباتهم، لدرجة أن البعض يسقطون حجازي وعبد الصبور، وهناك من ادعى أنه لم يسمع عن محمود حسن إسماعيل. في سياق كهذا يمكن أن نسحب هذه المعركة على احتفالية شوقي، على اعتبار أن بعض الشعراء العرب لا يرون له وجودا في مقابل مدرسة المهجر مثلا، لكني شخصيا أرى أن حركة التجديد في الشعر العربي قامت على جهود مدرسة الإحياء التي بلغت قمتها في شعر شوقي، وعلى جهود المهجريين أيضا. عموما ما يكتب هذه الأيام هو ظلال، بلا شك، لتلك المعركة القديمة الجديدة".
وما الذي تبقى من شوقي؟ سؤال يجب أن يكون مطروحا بعد خمسة وسبعين عاما من رحيله. الإجابات السريعة قد لا تكون بالدقة المطلوبة لكن حتى استغراق وقت في التفكير لن ينفي عن أي إجابة صفة الشخصانية. فلكل إنسان ذائقته التي تقوده إلى تقييم مختلف. من وجهة نظر الشاعر محمد سليمان: "كل شاعر كبير مهما كانت عبقريته لا يتبقى منه إلا البعض من قصائده، لهذا نجدهم في الغرب أكثر اهتماما بالمختارات. اليوت مثلا لا يتجاوز عدد قصائده الكبيرة الباقية أصابع اليد الواحدة، كذلك كفافيس الذي صنعته قصائد محدودة. الأمر نفسه حدث في الشعر العربي، فليس كل شعر المتنبي جيدا ولا شوقي أيضاً".
وجهة نظر الشاعر شعبان يوسف، تبدأ من منطلق لا يختلف كثيرا عن سابقه، لكنه يفضل الحديث عن شوقي وحافظ إبراهيم معا، يقول:" من قراءتي لشعرهما ومتابعتي لكتابات زملائي من شعراء السبعينات استطيع أن أؤكد أنه يوجد تأثير لهما في معظم أبناء هذا الجيل". لا ينكر يوسف أن تكريس الشاعرين عبر المناهج الدراسية له تأثير: "كتاب "حافظ وشوقي" لطه حسين كان مقررا علينا، وظل مقررا لسبع أو ثماني سنوات تالية. وكان من الكتب المحببة لنا نظرا لأسلوب مؤلفه الراقي والممتع". لكن التكريس المدرسي ليس وحيدا، ففي السبعينات أصبح كتاب الديوان بما يضمه من هجوم على شوقي مقروءا على نطاق واسع. غير أن شاعرية شوقي وحافظ ظلت باقية ومؤثرة طوال الوقت. ويضيف: "لو فحصنا تجربة السبعينات لوجدنا أثرا لشوقي وحافظ هنا أو هناك. من شوقي سنجد جمال العبارة ورقة الأسلوب، ومن حافظ اهتمامه بالبعد الاجتماعي". ويرى شعبان يوسف أن ما يفسد شاعرية شوقي هو عدم تجديد الشعراء والنقاد الحاليين للخطاب النقدي الخاص به: "نفس الأسماء التي تحدثت عن شوقي قديما هي التي تتحدث عنه حاليا، دون أن يكون هناك أي أفق لقراءة جديدة". ويعترض على من يقول بخفوت تأثير شوقي في السنوات الأخيرة: "شاهدت برنامجا هزيلا على احدى الفضائيات، أكد فيه أحد الشعراء أنه لا يوجد أي أثر لشوقي خلال العقود الثلاثة الماضية. وأرى أنها مقولة ظالمة، وأضرب مثالا واحدا بأحمد بخيت الذي شعره من سلالة شعر شوقي. كما أن كل شعراء السبعينات تأثروا بشكل ما بشوقي، مثلما تأثر الشعراء الروس ببوشكين".
هناك من جيل السبعينات من يتجاهلون شوقي لدرجة أنهم يؤكدون على حداثة شعراء أقدم منه بقرون ويرون فيه شاعراً بالغ التقليدية. تعليق يعقب عليه شعبان يوسف قائلا:" أعتقد ان قليلين من شعراء السبعينات هم الذين تنطبق عليهم إشارتك السابقة. ويكفي أن حجازى عندما قرأ شعراء السبعينات وكتب عنهم أطلق على كتابه اسم "أحفاد شوقي" وربما يكون هناك عقوق من الأبناء، لكن العقوق لا ينفي الأبوة. ولو تفرغ ناقد لهذه القضية لأثبت أن التأثر حدث بالفعل. وهناك من يعترف بذلك من السبعينيين".
إذا كان الخلاف محليا هكذا، لماذا يرى البعض أنه خلاف على ريادة الشعر العربي بين أقطاب متعددة؟ سؤال يعيد يوسف إلى ما مضى: "هناك غيرة من فكرة إمارة أحمد شوقي للشعر العربي. لكن في الفترة التي بويع فيها لم يكن يوجد من يقف أمامه إلا الجواهري في العراق. والعراقيون لم يشعروا بأي مشكلة في اختياره أميرا للشعراء، لأنهم كانوا واثقين في قدراتهم كمبدعين. ولم يشعر بالدونية من هذا إلا قصار القامة، لأن الكبار بايعوه ومنهم حافظ. لكن بعد سنوات بدأت محاولات سحب الإمارة بأساليب متنوعة، منها تهميشه في بعض الكتب أو استعمال لقب أمير الشعراء في خزعبلات لن تدوم". مصطلح قصار القامة استوقفنا، خاصة أن مبدعين كبارا كانوا ينتقدون شوقي مثل العقاد. لكن يوسف يؤكد أن العقاد والمازنى وشكري لم يكونوا في نفس قامة شوقي شعريا، ويوضح ما يقصده: "أعني بالشعراء قصار القامة، هؤلاء الذين تحكمهم النعرات الإقليمية. فكل بلد كان يود أن يخرج شاعرا مثله ومن هنا بدأت المشكلة". لكن هل إمارة الشعر مطلقة تتجاوز حدود الزمان والمكان؟ يرد قائلا:" لا، لذلك ارى ان شوقي هو متنبي العصر الحديث، وشاعر العرب في القرن العشرين. وهو ليس تحيزا وإنما حكم ناتج
ويشير إلى أن ثمة كتبا غير متوافرة في المكتبة القومية بعد أن تسربت وتم بيعها لدى تجار الكتب، ويؤكد انه يمتلك بعضها ومنها طبعة "نهج البردة" التي صدرت عام 1910 ولم يعد طبعها بالشكل الذي كانت عليه أبدا، خصوصا الصفحة الأولى التي اعتبرها محبو شوقي إدانة له، حيث انها كانت تتضمن اهداء إلى "المليك المعظم مولانا الحاج عباس حلمي الثاني". وتنتهي بتوقيع "عبدكم.. شوقي". كما يشير الشهاوي إلى أنه يملك كتبا أخرى ألفها شوقي، ولم تعد متاحة للكثيرين ومنها "أسواق الذهب" الذي صدر عام 1932، "دول العرب وعظماء الإسلام"، وصدر عام 1933 بعد وفاة شوقي. ويطالب الشهاوي بضرورة توفير كل كتابات شوقي للقراء. "ولا أعتقد أن وزارة الثقافة المصرية ستتكلف كثيرا إذا شكلت لجنة داخل متحف شوقي لجمع وطباعة أعماله، فليس منطقيا أن يكون هناك متحف يحمل اسمه من دون ان يضم كل إبداعاته".
بمناسبة كلام الشهاوي عن المتحف، طلبنا من قطاع الفنون التشكيلية الذي يتبعه المتحف احصاء عن عدد زواره في الشهور الخمسة الأخيرة فجاء كالتالي: شهر إبريل 137 زائرا، شهر مايو 49 زائرا، يونيو 30 زائرا، يوليو 107زائرين، أغسطس: 128 زائرا. أي أن المتحف بلا زوار تقريبا.
بداية حديث الشهاوي اعطت انطباعا بأنه سيقف في صف شوقي ضد منتقديه، لكن ما تلاه كان مخالفا للتوقعات: "سيسقط من شعر شوقي الكثير إذا حذفنا منه المدائح والقصائد المناسباتية، والقصائد التي تنال من أشخاص وهي كثيرة". الحديث عما سيبقى من شعره أو يذهب طبيعي، لكن سياق الحديث يقود الشهاوي إلى فترة المنفى: "لم يكن منفيا كما اعتقد الناس. فقد تركت له حرية اختيار المكان، فاختار برشلونة ومنها ذهب إلى المدن الأندلسية الأخرى، وعاش في رغد لأن برشلونة وإشبيلية وقرطبة وطليطلة وغرناطة لا تعد منفى. إذا اعتبر هذا نفيا فماذا نقول عن نفي محمود سامي البارودي إلى سرنديب. لا نريد أن نردد ما أخبرنا به المدرسون دون فحص". قبلها بدقائق كان الشهاوي يؤكد أن شوقي لم يكتب نهج البردة معارضا للبوصيري بل للبارودي وقصيدته الذي كتبها قبله بثماني سنوات "كشف الغمة في مديح سيد الأمة"، وقارن بين الطباعة الفخمة لقصيدة شوقي مقارنة بقصيدة البارودي التي كانت فقيرة الطباعة. بعيدا عن التداعيات نعود إلى فكرة المنفى لأنها ستقود إلى جزئية محورية في كلام الشهاوي: "عاش شوقي في بلدين اوروبيين هما فرنسا واسبانيا. في تلك السنوات كان هناك شعراء كبار يغيرون شكل الشعر في اوروبا والعالم كله، مثل رامبو، فرلين، مودلير، لوركا وغيره. كان شوقي يتقن الفرنسية، لكنه للأسف كان يعيش عصرا آخر، ولم يستفد من التيارات الغربية التي كانت تمور في البلدين آنذاك رغم موهبته الفذة. يتضح من أوراقه الخاصة أنه لم يتصل بهؤلاء على الإطلاق، ولم يتواصل مع نصوصهم الشعرية وهو ما أخذه عليه العقاد وأيده فيه طه حسين". كلمات الشهاوي تنتقد شوقي في العمق، فأحد أهم دفاعات مؤيدي أمير الشعراء تقوم على ضرورة الحكم على شاعريته بمقاييس عصره لا عصرنا، والشهاوي يشير إلى أن شوقي تخلف عن مجايليه وارتضى الشكل التقليدي رغم تيارات الحداثة التي كان يحيا على مبعدة أمتار منها. نعلق فيضيف الشهاوي:"شوقي كان يمتلك المال واللغة ووجوده في عين المكان. كان في قلب النار ولم يحترق بها، لتتولد المفارقة. فنحن الآن نتأثر بما تركه معاصرو شوقي من شعراء الغرب من دون أن نتأثر به هو. هل أثر شوقي في الشعر العربي الذي يكتب الآن؟ لا، هل يعود شعراؤنا إلى شوقي كمرجع؟ لا، لكنهم يعودون إلى الأسماء التي ذكرتها قبل قليل". طرح الشهاوي أسئلته وأجاب بيقينية رغم أن هناك من أكد العكس وبيقينية مضادة. لكنه الخلاف في الرأي الذي ربما يتسع مع العبارات التالية: "نحن نحكم على شوقي بعواطفنا، خصوصا حجازي الذي يراه نهاية الشعر في الكون، ويدافع عنه ظالما أو مظلوما. نحن لا نتحدث عنه عادة بشكل موضوعي. أنا أحب قصائده التي كتبها في نهايات حياته عندما تخلص من سطوة القصر وأغراض الشعر التقليدية وذهب إلى خالص الشعر". يخلص الشهاوي من ذلك إلى عبارة تحمل مفارقة: "كان شوقي متحررا في فكره وعقله وسلوكه، لكن الغريب أن نصه لم يكن كذلك". يلمح الشهاوي الى أن استمرار شوقي جاء بقوة المناهج أو لعوامل أخرى لا علاقة لها بشاعريته: "لا بد أن نذكر محمد عبد الوهاب الذي دفعه وفاؤه لتلحين مئات القصائد له لا يذاع منها الآن إلا عشرات. ولولا ما فعله عبد الوهاب لمات شوقي رغم الإمارة المزعومة". مصطلح الإمارة المزعومة يحتاج إلى وقفة، يوضح الشهاوي: "مجايلوه كانوا يخشونه لقربه من القصر فاضطروا لمبايعته". يشعر أن انتقاداته زادت فيخففها: "لا أكره شوقي لكني أكره فكرة تغييب أمور مهمة جدا في تاريخه. كانت مواقفه من الزعماء الوطنيين غريبة جدا، وبينما وقفت مصر إلى جانبهم وقف هو إلى جانب القصر حتى أنه لم يرث مصطفى كامل إلا بعد وفاته بسنوات خوفا من إغضاب الخديوى. أحمد شوقي بك لم يكن في حاجة إلى إمارة أخرى لأنه كان ينعم في سلطان القصر ونعيمه، لكن لماذا لا يضاف إلى كل هذا سلطة أخرى معنوية هي إمارة الشعر".
الحديث عن البعد العربي للصراع حول شوقي ربما يهدىء من حدة انتقادات الشهاوي الذي يعلق على هذه الجزئية بقوله: "إنها مسألة مصر في مواجهة الآخرين. هناك من يرى أن شوقي ليس بهذا القدر من الضخامة الذي سوقته مصر. وهناك فريق آخر يرى أنه أعظم شاعر. أنا أرى أن شوقي هذه الأيام هو مواجهة بين حجازى وأدونيس. لكن الأول مشغول بشوقي أما الثاني فقال ما